خواطر
سأل المريد شيخه: "كيف تبردُ نار النفس؟"قال : بالاستغناء، استغنِ يا ولدي فمن تَركَ مَلَكْ .قال المريد : "وماذا عن البشر؟"قال : هم صنفان من أراد منهم هَجْرَكَ وَجَدَ في ثُقْب الباب مخرجاً، ومن أراد وُدَّكَ ثَقَبَ في الصخرة مدخلاً ..- شمس التبريزي
مجانين هؤلاء الذين يتخذون من المال هدفا" لحياتهم
مجانين هؤلاء الذين يتخذون من المال هدفا" لحياتهم, فليس للإنسان إلا
بطن واحدة يملؤها, وهو لن يستطيع أن يلبس إلا بدله واحدة كل مرة و
أن يسكن إلا بيتا" واحدا" فى وقت واحد,,
فإذا زادت ثروته على حاجاته فلن تكون هذه الزيادة فى خدمته... بل
سيكون هو الذى يعمل فى خدمتها..
مجانين يا عزيزي هؤلاء الناس الذين يتخذون المال هدفاً و الشهرة غاية
و الطمع خلقاً و الغرور مركباً .. إنهم يعبئون الهواء في حقائب و
يمسكون بالظل و ينقشون أسمائهم على الماء ..
إنها مسألة لا تقدم و لا تؤخر إذا اشتهرت بالطيبة و أنت في حقيقتك
شرير .. فحقيقتك هي التي تلازمك , أما كلام الصحف فمصيره مثل
مصير ورق التواليت و الناس يغيرون وجوههم كل يوم فلا تبحث عن
قيمتك في وجوه الناس ..
اسمع .. إن أفقر الفقراء اليوم يستطيع أن يركب عربة و يستقل قطاراً
سريعا ً إلى بلده و كان أغنى أغنياء زمان لا يجد إلا حصاناً يحمله و يلقي
به منهكاً مجهداً بعد سفر الأيام و الليالي ..
و أغنى أغنياء زمان كان يتباهى بأنه يستطيع أن يجلب فرقة راقصة
مغنية تسليه هو و ضيوفه .. و أفقر فقراء اليوم يستطيع بضغطة على
زرار أن يستعرض بضع فرق راقصة مغنية في بضع محطات تلهو و
ترقص أمامه بالألوان في تلفزيون أو راديو بينما هو يرخي أهدابه لينام
في راحة ..
صدقني أن الإنسان لا يشكو لحاجة مادية فهو اليوم أغنى و أكثر ترفاً
من قارون الأمس .. و لكنه يشكو لأنه ينظر إلى ما في أيدي الآخرين ..
من يركب عربة بالأجرة ينظر إلى من يركب عربة " ملاكي " .. و من عنده
العربة الملاكي ينظر إلى من عنده العربتان .. و من عنده يخت ينظر
إلى من عنده طائرة .. و صاحب الزوجة الجميلة لا ينظر إلى زوجته بل ينظر إلى زوجة جاره ..
إن كل ما نملكه يفقد قيمته و الأنظار في تحول دائم إلى ما يمتلكه الآخرون ..
إن حقيقة الأمر هو الحسد و العدوان و الحقد و ليس الفقر و لا الافتقار
.. و سوف تزداد الشكوى كلما ازداد الناس غنى .. و يزداد الناس إحساساً
بالفقر كلما ازداد ما يمتلكون ,, لأن الغنى الفعلي هو حقيقة نفس و ليس حقيقة رصيد
و لأي شيء يشحذ الشحاذ إذا كان يضع كل الفكة ألوفاً مؤلفة من
الجنيهات في جوالات و لا ينفق منها شيئاً ..
و لماذا جمع ما جمع ..و لمن كان يجمع ..
لا شيء سوى لذة السلب و العدوان و الإحساس بأنه أذكى ممن أعطاه
و أنه ضحك عليه ..و ما ضحك في الواقع إلا على نفسه ..
ليتنا نتوقف عن الجري و اللهاث باحثين عن لحظة صدق لا نضحك فيها
على أنفسنا .. لحظة صدق واحدة يا صاحبي أثمن من جميع اللآلئ ..
لحظــة صــدق واحـــدة هــي الحيــــــــــاة
دعنى أحك لك قصة يا صديق ..
دعني أرجع بك خمسين سنة إلى الوراء ..
شاب طموح كانت تعشعش في رأسه أحلام كبيرة وكان متعجلا
يريد الثراء في أقصر وقت وبأي سبيل .
وكان له عم يحدثه عن باريس ويكلمه عن السفر والدكتوراه ..
ويقول له سوف أنفق عليك وأتكفل بك ..
وسافر الشاب إلى باريس ..
ولكنه كما قلت كان متعجلا ومشوار الدكتوراه كان أطول بكثير من
خطوته .
وكان شارع البيجال أكثر جاذبية وأقل مشقة .
وبدأ صاحبنا دراسته من شارع البيجال من عند فتاة بار - المانية -
وطافت به مارجريت على علب الليل ، ونزلت به إلى عالم المخدرات .
ثم أخدته إلى ألمانيا وعرفته على شقيقها تاجر المخدرات في ميونخ
وأنفق عليه في بذخ خرافي وفتح أمامه أقصر الطرق إلى خزائن الأحلام !
وهكذا غدا صاحبنا عضوا عاملا في أكبر عصابة تهريب تعمل بين تركيا
ولبنان وإسرائيل وأروبا والشمال الأفريقي ، واًصبح مليونيرا في شهور
ثم قاتل قبل أن يمر عام واحد ، ثم مسجونا في مدريد ينام على
الأسفلت ويتبول في برميل ، ثم هاربا تطارده المدافع الرشاشة
والكلاب البوليسية ، ثم مسجونا من جديد في سجن برلين ورا عيون
الكترونية وقضبان غليظة وأسوار مكهربة تجري هذه الاحداث مسرعة
وتجري أحداث الحرب العالمية الثانية في موازاتها مسرعة الأخرى ..
والسنوات تمر حبلى بالكوارث .
وصاحبنا مسجون .
والقنابل تتساقط على برلين .
والحلفاء يدخلون برلين من ثلاثة مواضع .
وكل شيء ينفجر من حوله ومن فوق رأسه ومن تحت رجليه
وينفجر السجن ويجد نفسه في العراء شبحآ يجري في الدخان والبارود .
هيكل عظمى لرجل متسول !
ويشاهد أمامه ألمانيا أخرى غير التي عرفها .
أنقاض وخراب وأشلاء وجوع .
ونساء تبيع الواحدة نفسها برغيف وسيجارة .
والكل ينهب ويسرق ويقتل .
وبنك الرايخ الألماني على الأرض .. البنك المركزي الألماني الذي كان
يضمن كل مؤسسات وشركات ألمانيا ويقرض الدول والجماعات ،
أصبح أعمدة من الخرسانة وحفرا وفجوات وأكواما من التراب
ولعل كثيرين قد فكروا مثله !
ولعل بعضهم سبقه .
إنها خبطة العمر ..
أن يعثر على خزينة محطمة في تلك الأنقاض ، وأن يملآ حقيبته بملايين
الفلوس ويحل كل مشاكلها في لحظة وإلى الأبد ..
إن الكل ينهب والكل يسرق والكل يقتل .
والجريمة هي القاعدة والجنون هو الدستور .
هل تصدق يا صاحبي ..
لقد عثر الرجل بالفعل على ضالته وملأ حقيبته بملايين الفلوس ، وعاد
كالمجنون ليقرأ في الصباح مانشتات عريضة في جميع الصحف ،
بإفلاس العملة وإلغاء الفلوس الألمانية !!
وهكذا تحولت الملايين في يده إلى صفر هكذا فجأة !
وفي غمضة عين وفقد الرجل عقله ..
البنك الذي كان يضمن العالم أصبح غير مضمون ..
لا حول ولا قوة إلا بالله .
هذه جنازة تخرج من الشارع يا صاحبي .
تُرى جنازة من ؟!
من قال إن أحدا يستطيع أن يضمن أحدا ..
وهل تصور المرحوم الذي نشيعه الآن أنه سوف يعبر الشارع محمولا
على الاكتاف ؟!
ولو أن الشاب بطل قصتنا لم يتعجل ولم يطلب الثراء بأي ثمن
لكان له شأن آخر ..
ولو أنه سار معنا وراء هذه الجنازة لرأى المقابر ملأى بألوف الموتى
ممن كانوا متعجلين مثله ، ولم يصلوا إلى شيء ، ولربما تغير تفكيره ..
ولربما اعتبر !!
أن مشكلة الإنسان أنه قليل الصبر ، وأنه يحاول أن يحصل على كل
شيء
في التو واللحظة ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالجريمة !
هل تعرف لماذا لا نصبر ؟!
لأننا نقول دائماً لأنفسنا ..
و من يضمن لنا المستقبل إذا ضحينا بالحاضر .
و لا أحد يفكر بأن الله هو الضامن و أنه هو الحقيقة الوحيدة المؤكدة و
أنه خالق الوجود و ضامنه .
إن بنك الرايخ الألمانى الذى كان يضمن العالم لم يستطع أن يضمن نفسه .
و لو امتلأت النفوس بهذا الإيمان لانحلت العقدة .. و لكن لا إيمان اليوم رغم كثرة المآذن .
إنها مجرد مصاحف مُدلاة على الصدور .
لكن الصدور نفسها ليس فيها شئ سوى رغبة مُحرِقة فى اغتنام لذة أو انتهاز مصلحة .
هيه يا صاحبى .. تُرَى هل اعتبرت .
من كتاب المسيخ الدجــال
للدكتور مصطفى محمود